مجزرة مقهى الباقة..

بيان أبو سلطان تكتب عن الفصول الأخيرة من حياة لم تكتمل!

الصحافية بيان أبو سلطان
الصحافية بيان أبو سلطان

خص_ الرسالة نت

في الثلاثين من يونيو/حزيران الماضي، وبينما كانت مدينة غزة تواصل احتضان جراحها المفتوحة منذ أكثر من ستمائة يوم من حرب الإبادة الجماعية، خرجت الصحافية بيان أبو سلطان إلى مقهى (الباقة)، ملاذها الأخير على شاطئ البحر غرب المدينة، بحثًا عن لحظة هدوء زائفة وسط دوّامة الموت المستمرة.

"أنعم بقسط من السلام -المزيّف- وسط ضوضاء المذبحة التي نعيشها منذ قرابة العامين"، كتبت بيان لاحقًا، في شهادةٍ مريرة، لم تكن تعلم أنها ستكون وصيّتها الحية المتبقية من يومٍ تحوّل فيه فنجان القهوة إلى شظايا، والمقاعد الخشبية إلى نقالات موت.

دخلت بيان المقهى كما اعتادت دومًا، تبتسم وتلقي السلام على الوجوه اليومية: عاطف، حمص، هادي... أسماء تحوّلت خلال لحظات إلى عناوين للرثاء. 

جلست على طاولة مجاورة لصديقيها الفنانة فرانس "آمنة" السالمي والمصور إسماعيل أبو حطب، اللذَين كانا يوثّقان بكاميرا هاتفٍ رسالةً للعالم، علّها تنقل وجع غزة، قبل أن يسبقهم صوت الانفجار ليروي المشهد الأخير.

بين نساءٍ يضحكن في الزاوية، وهدية مصالحة ضخمة بين صديقتين، كانت غزة تحاول أن تبدو طبيعية، أن تُقنع نفسها أنها ما زالت على قيد الحياة. حتى جاء الموت من البحر. "الزوارق الحربية قريبة جدًا اليوم"، همست بيان لصديقها محمد أبو شمالة، قبل أن يُبتر المشهد بالانفجار العنيف الذي شقَّ الهواء، وزلزل المكان.

في لحظةٍ خاطفة، وجدت بيان نفسها على الأرض، دويّ في أذنيها، شظايا في وجهها، ودماء تسيل فوق عينيها. غريزة البقاء دفعتها للزحف تحت الطاولة، ومحمد ألقى بنفسه خلفها، جسده كان درعًا لها. وحين رفعت رأسها، رأت فتاة تحاول أن تنطق، لكن روحها كانت تسبق صوتها إلى السماء. ثم التفتت بيان لتجد قدمًا مفصولة عن جسدها، وصديقيها إسماعيل وفرانس قد ارتقيا شهيديْن!

في شهادتها الصادمة، وصفت بيان المشهد بجملة خنقت القارئ قبل أن تخنقها: "مشيت بخطى هي الأبطأ، ومع كل خطوة كان قلبي يعتصر ألمًا، لا مما أصبت به من شظايا، بل من هول المشهد، مشهد رؤية جثامين أشخاص كنت قد تمنيت لهم صباحًا خيّرًا، زملاء وأصدقاء، بل وعائلة."

ورغم الدماء التي غطت جسدها، لم تدرك إصابتها إلا حين حملت حقيبتها على كتفها، فصرخت ألماً. كان الجرح الأعمق ليس في الجسد، بل في العجز، ذلك الذي وصفته بمرارة: "عجز من لم يستطع إنقاذ من يحب."

وصلت بيان إلى المشفى يتقاذفها الذهول والدم، وحين رأت وجه أمها، سمحت لنفسها أخيرًا بالسقوط.

بيان لم تنزح من بيتها، ولم تترك مدينتها رغم استشهاد شقيقها الوحيد، بقيت شاهدة على وجع غزة، تنقل الحقيقة بقلبٍ مثقوب بالغياب، وجسدٍ مثقوب بالشظايا. لكنها، وهي تتلو شهادتها من قلب الجحيم، ختمت بكلمات لا تحتمل التأويل: "الرحمة لأرواح الشهداء، الشفاء للجرحى، الصبر لقلوب ذويهم ومحبيهم، واللعنة، كل اللعنة، على الاحتلال."

بيان، الصحافية التي كتبت بقلمها ودمها، سجّلت اللحظة قبل أن تُغتال، لا بطلقة، بل بذاكرة لن تموت.

وها هي الآن، صورتها محفورة في الوجدان، كما في الهاتف المفقود الذي تركته تحت أنقاض (الباقة)، وعليه خريطة فلسطين من زجاج... تمامًا كغزة: مكسورة، لكنها ما زالت تلمع.

 

 

البث المباشر
OSZAR »